كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَحَدُهُمَا: أَنَّ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا قَدْ انْعَقَدَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَقَائِلُهُ خَارِجٌ عَنْ نِطَاقِ الْإِجْمَاعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجْعَلُ قولهُ: {ثُمَّ يَعُودُنَّ لِمَا قالوا}
تَكْرَارًا لِلْقول وَاللَّفْظِ مَرَّتَيْنِ، وَاَللَّهُ تعالى لَمْ يَقُلْ ثُمَّ يُكَرِّرُونَ الْقول مَرَّتَيْنِ، فَفِيهِ إثْبَاتُ مَعْنًى لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ.
وَإِنْ حَمَلْته عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ لِمِثْلِ الْقول فَفِيهِ إضْمَارٌ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْقول وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، فَالْقَائِلُ بِذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْإِجْمَاعِ وَمُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهَا فَإِنْ قِيلَ: وَأَنْتَ إذَا حَمَلْتَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَأَنَّ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ فَقَدْ زُلْتَ عَنْ الظَّاهِرِ قِيلَ لَهُ: إذَا كَانَ الظِّهَارُ قَدْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ فَاَلَّذِي يَسْتَبِيحُهُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ بِالْقول، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَوْدًا لِمَا قال؛ إذْ هُوَ مُسْتَبِيحٌ لِذَلِكَ الْوَطْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ بِعَيْنِهِ وَكَانَ عَوْدًا لِمَا قال مِنْ إيجَابِ التَّحْرِيمِ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْوَطْءَ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَحُكْمَ الْوَطْءِ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ حَرَّمَهُ بِالظِّهَارِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْدَامُ عَلَى اسْتِبَاحَتِهِ عَوْدًا لِمَا حَرَّمَ فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُطَابِقًا لِلَّفْظِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَتْ الِاسْتِبَاحَةُ هِيَ الْمُوجِبَةَ لِلْكَفَّارَةِ فَلَيْسَ يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الِاسْتِبَاحَةِ وَعَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ إيقَاعِ الْوَطْءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَ فَهَذَا يُلْزِمُك إيجَابَ الْكَفَّارَةِ بِنَفْسِ الْعَزِيمَةِ قَبْلَ الْوَطْءِ كَمَا قال مَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ إيقَاعَ الْوَطْءِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ، وَهَذَا خِلَافُ الْآيَةِ، وَلَيْسَ هُوَ قولك أَيْضًا.
قِيلَ لَهُ: الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ، فَقِيلَ لَهُ: إذَا أَرَدْت الْوَطْءَ وَعُدْت لِاسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمْته فَلَا تَطَأُ حَتَّى تُكَفِّرَ، لَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ وَلَكِنَّهَا شَرْطٌ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ، كَقولهِ تعالى: {فَإِذَا قرأتَ القرآن فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} يَعْنِي فَقَدِّمْ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقراءة، وَقولهِ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} وَالْمَعْنَى: إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ فَقَدِّمُوا الْغَسْلَ.
وَقولهِ: {إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}.
وَكَقولهِ: {إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، وَالْمَعْنَى: إذَا أَرَدْتُمْ ذَلِكَ.
قال أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الظِّهَارَ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً، وَإِنَّمَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ، وَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ، فَإِذَا لَمْ يُرِدْ وَطْأَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ عَاشَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ إذْ كَانَ حُكْمُ الظِّهَارِ إيجَابَ التَّحْرِيمِ فَقَطْ مُوَقَّتًا بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ، وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يُكَفِّرْ فَالْوَطْءُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ فَإِنْ وَطِئَ سَقَطَ الظِّهَارُ وَالْكَفَّارَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ حُكْمَ الظِّهَارِ وَمَا أَوْجَبَ بِهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بِأَدَائِهَا قَبْلَ الْوَطْءِ لِقولهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، فَمَتَى وَقَعَ الْمَسِيسُ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْآيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرْضٍ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ أَوْ مُعَلَّقٍ عَلَى شَرْطٍ فَإِنَّهُ مَتَى فَاتَ الْوَقْتُ وَعَدِمَ الشَّرْطُ لَمْ يَجِبْ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَاحْتِيجَ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى فِي إيجَابِ مِثْلِهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي.
فَهَذَا حُكْمُ الظِّهَارِ إذَا وَقَعَ الْمَسِيسُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ثُمَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقال لَهُ: «اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» فَصَارَ التَّحْرِيمُ الَّذِي بَعْدَ الْوَطْءِ وَاجِبًا بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ وَطِئَ مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بَعْدَهُ، فَقال الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ قول مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ فِي آخَرِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ.
قال: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي فَجَامَعْتهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ؟ فَقال: «اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ بَعْدَ الْوَطْءِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْقِيتِ الظِّهَارِ، فَقال أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا قال أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي الْيَوْمَ بَطَلَ الظِّهَارُ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ، وَقال ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: هُوَ مُظَاهِرٌ أَبَدًا. قال أَبُو بَكْرٍ: تَحْرِيمُ الظِّهَارِ لَا يَقَعُ إلَّا مُوَقَّتًا بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا وَقَّتَهُ الْمُظَاهِرُ وَجَبَ تَوْقِيتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّا لَا يتوقت لَمَا انْحَلَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ بِالتَّكْفِيرِ كَالطَّلَاقِ، فَأَشْبَهَ الظِّهَارُ الْيَمِينَ الَّتِي يُحِلُّهَا الْحِنْثُ، فَوَجَبَ تَوْقِيتُهُ كَمَا يتوقت الْيَمِينُ وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِلُّهُ شَيْءٌ.
فَإِنْ قِيلَ: تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ يَقَعُ مُوَقَّتًا بِالزَّوْجِ الثَّانِي وَلَا يتوقت بِتَوْقِيتِ الزَّوْجِ إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ قِيلَ لَهُ: إنَّ الطَّلَاقَ لَا يتوقت بِالزَّوْجِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مُسْتَقْبَلَاتٍ وَالثَّلَاثُ الْأُوَلُ وَاقِعَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ.
وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ طَلَاقًا غَيْرَهَا، فَلَيْسَ فِي الطَّلَاقِ تَوْقِيتٌ بِحَالٍ، وَالظِّهَارُ مُوَقَّتٌ لَا مَحَالَةَ بِالتَّكْفِيرِ فَجَازَ تَوْقِيتُهُ بِالشَّرْطِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ هَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ إيلَاءٌ؟ فَقال أَصْحَابُنَا وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْأَوْزَاعِيّ لَا يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَى الْمُظَاهِرِ، وَإِنْ طَالَ تَرْكُهُ إيَّاهَا. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَدْخُلُ عَلَى حُرٍّ إيلَاءٌ فِي ظِهَارٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُضَارَّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ مِنْ ظِهَارِهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَدْخُلُ عَلَى ظِهَارِهِ إيلَاءٌ.
وَقال ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَى الظِّهَارِ إذَا كَانَ مُضَارًّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ مِنْ ظِهَارِهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَدْخُلُ عَلَى ظِهَارِهِ إيلَاءٌ.
وَقال ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ يَدْخُلُ الْإِيلَاءُ عَلَى الظِّهَارِ إذَا كَانَ مُضَارًّا وَمِمَّا يُعْلَمُ بِهِ ضِرَارُهُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْكَفَّارَةِ فَلَا يُكَفِّرُ فَإِنَّهُ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ وُقِفَ مِثْلُ الْمُولِي فَإِمَّا كَفَّرَ، وَإِمَّا طَلُقَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَدْخُلُ عَلَى الظِّهَارِ قال أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ الظِّهَارُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا صَرِيحًا فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الطَّلَاقِ بِهِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَمَنْ أَدْخَلَ الْإِيلَاءَ عَلَى الْمُظَاهِرِ فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَأَيْضًا نَصَّ اللَّهُ عَلَى حُكْمِ الْمُولِي بِالْفَيْءِ أَوْ عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ.
وَنَصَّ عَلَى حُكْمِ الْمُظَاهِرِ بِإِيجَابِ كَفَّارَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ إذْ مِنْ حُكْمِ الْمَنْصُوصَاتِ أَنْ لَا يُقَاسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُجْرًى عَلَى بَابِهِ، وَمَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ وُقُوعُ الْحِنْثِ وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِالْوَطْءِ فَلَيْسَ هُوَ إذًا فِي مَعْنَى الْإِيلَاءِ وَلَا فِي حُكْمِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُولَى سَوَاءٌ قَصَدَ الضِّرَارَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ وَقَدْ اتَّفَقْنَا أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَقْصِدْ الضِّرَارَ بِالظِّهَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، وَإِنْ قَصَدَ الضِّرَارَ فَإِنْ قِيلَ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِيلَاءِ يُنْبِئُ عَنْ قَصْدِ الضِّرَارِ؛ إذْ هُوَ حَلِفٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ.
قِيلَ لَهُ: الظِّهَارُ قَصْدٌ إلَى الضِّرَارِ مِنْ حَيْثُ حَرَّمَ وَطْأَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ يُقَدِّمُهَا عَلَيْهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَقْتَضِيَانِهِ مِنْ الْمُضَارَّةِ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ فَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَمَةٍ ظِهَارٌ. وَهَذَا قول إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ قول أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيِّ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قالوا: هُوَ ظِهَارٌ. وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْثُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَقالوا: يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنْ أَمَتِهِ كَمَا هُوَ مِنْ زَوْجَتِهِ.
وَقال الْحَسَنُ: إنْ كَانَ يَطَأُهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطَأُهَا فَلَيْسَ بِظِهَارٍ. قال أَبُو بَكْرٍ: قال اللَّهُ تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْصَرِفُ مِنْ الظِّهَارِ إلَى الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} فَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قولهِ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} الْحَرَائِرَ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ عَطْفُ قولهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}، فَكَانَ عَلَى الزَّوْجَاتِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الظِّهَارِ مَأْخُوذًا مِنْ الْآيَةِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهَا مَقْصُورًا عَلَى الزَّوْجَاتِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ، لَمْ يَجُزْ إيجَابُهُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ ظِهَارٍ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ، فَأَبْدَلَ اللَّهُ تعالى بِهِ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُ الْأَمَةِ لَمْ يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا.
وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مِنْ جِهَةِ الْقول يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَالْأَمَةُ لَا يَصِحُّ تَحْرِيمُهَا مِنْ جِهَةِ الْقول، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَمْلُوكَاتِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَتَى حَرَّمَهَا بِالْقول لَمْ تَحْرُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ فَكَذَلِكَ مِلْكُ الْيَمِينِ وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الظِّهَارُ مِنْهَا؛ إذْ لَا يَصِحُّ تَحْرِيمُهَا مِنْ جِهَةِ الْقول.
فِي الظِّهَارِ بِغَيْرِ الْأُمِّ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي أَوْ ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَقال أَصْحَابُنَا: هُوَ مُظَاهِرٌ، وَإِنْ قال كَظَهْرِ فُلَانَةَ وَلَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَهُوَ قول الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيّ وَقال مَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: يَصِحُّ الظِّهَارُ بِالْمُحَرَّمِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ. وَلِلشَّافِعِيَّ قولانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْأُمِّ.
وَالْآخَرُ: أَنَّهُ يَصِحُّ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ قال أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا صَحَّ الظِّهَارُ بِالْأُمِّ وَكَانَتْ ذَوَاتُ الْمَحَارِمِ كَالْأُمِّ فِي التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ الظِّهَارُ بِهِنَّ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُنَّ فِي جِهَةِ التَّحْرِيمِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الظِّهَارَ بِالْأُمِّ مِنْ الرَّضَاعَةِ صَحِيحٌ مَعَ عَدَمِ النَّسَبِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ.
وَرُوِيَ نَحْوَ قول أَصْحَابِنَا عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَقال الشَّعْبِيُّ إنَّ اللَّهَ تعالى لَمْ يَنْسَ أَنْ يَذْكُرَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ إنَّمَا الظِّهَارُ مِنْ الْأُمِّ. وَأَيْضًا لَمَّا قال تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} اقْتَضَى ظَاهِرُهُ الظِّهَارَ بِكُلِّ ذَاتِ مَحْرَمٍ؛ إذْ لَمْ يُخَصِّصْ الْأُمَّ دُونَ غَيْرِهَا وَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْأُمِّ فَقَدْ خَصَّ بِلَا دَلِيلٍ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قال تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الظِّهَارَ بِالْأُمِّ قِيلَ لَهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْأُمَّهَاتِ؛ لِأَنَّهُنَّ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِنَّ حَدُّ الْآيَةِ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ قوله: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} عُمُومًا فِي سَائِرِ مَنْ أَوْقَعَ التَّشْبِيهِ بِظَهْرِهَا مِنْ سَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنْ سَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَلْزَمَهُ حُكْمَ الظِّهَارِ، وَهُوَ قولهُ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقول وَزُورًا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَلْزَمَهُمْ هَذَا الْحُكْمَ؛ لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ بِأُمَّهَاتِهِمْ، وَأَنَّ قولهُمْ هَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقول وَزُورٌ فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ هَذَا الْحُكْمِ فِي الظِّهَارِ بِسَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ؛ لِأَنَّهُ إذْ ظَاهَرَ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَلَيْسَتْ هِيَ أُخْتَهُ وَلَا ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَهَذَا الْقول مُنْكَرٌ مِنْ الْقول وَزُورٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بُضْعَ امْرَأَتِهِ وَهِيَ مُبَاحَةٌ لَهُ وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُك عَلَى هَذَا إيجَابُ الظِّهَارِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَلِدَلَالَةِ فَحْوَاهَا عَلَى جَوَازِ الظِّهَارِ بِسَائِرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، إذْ لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُنَّ؛ وَلِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ مُنْكَرٌ مِنْ الْقول وَزُورٌ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ لَمْ يَكُنْ قولهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ الْأَجْنَبِيَّةِ مُفِيدًا لِلتَّحْرِيمِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَمْلِكَ بُضْعَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَتَكُونَ مِثْلَهَا وَفِي حُكْمِهَا.
وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْأَمْتِعَةِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا يَصِحُّ بِأَنْ يَقول أَنْتِ عَلَيَّ كَمَتَاعِ فُلَانٍ أَوْ كَمَالِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَمْلِكُهُ بِحَالٍ فَيَسْتَبِيحُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الظِّهَارِ بِغَيْرِ الظَّهْرِ فَقال أَصْحَابُنَا إذَا قال أَنْتِ عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّيِّ أَوْ كَرَأْسِهَا أَوْ ذَكَرَ شَيْئًا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، وَإِنْ قال كَبَطْنِهَا أَوْ كَفَخِذِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ كَالظَّهْرِ.
وَقال ابْنُ الْقَاسِمِ قِيَاسُ قول مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ مُظَاهِرًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْأُمِّ. وَقال الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ إذَا قال أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّيِّ أَوْ كَيَدِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ التَّلَذُّذَ بِذَلِكَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ.